Monday, June 30, 2008

تدوينات شجية


قمر على جيل السبعينات - ذكرى أحمد عبد اللــه
د. أحمد الخميسي

تحل الذكرى الثانية لرحيل أحمد عبد الله ويحتفل بها أصدقاؤه وزملاؤه ومحبوه، وقد انطفأت حياة زعيم حركة الطلاب في يناير 1972 أحمد عبد الله، وحده في شقة صغيرة بالجيزة. توفي بأزمة قلبية في الخامس من يونيو2006 في ذكرى النكسة التي فجرت حركة الطلاب التي تربت - على حد قول أحمد عبد الله - " في أحضان هزيمة 67".
أحاول الآن أن أستعيد صورة أحمد عبد الله، الأكثر سطوعاً من أحداث التاريخ، وأن أتذكر أحداث التاريخ، الأكثر بقاء من أحمد عبد الله، ومن كل موهبة فردية.
عرفت أحمد عبد الله بعد مظاهرات يناير 1972، ثم التقينا مطولاً في موسكو، ثم في كوبا، ثم التقينا كثيراً في مصر في السنوات الأخيرة. كان شخصاً نادراً، بكل معنى الكلمة، تتوهج روحه كلها في وجهه الحساس دون توقف مثل قطعة ألماس تشع بنور صاف وحاد لا يتكرر. لم أشهد زعامته داخل الجامعة، ولا خطاباته، لكن شهادات كل من عرفه داخل الجامعة كانت تجزم بأنه كان إذا تحدث خطف الألباب والأنظار والعقول بسحر خاص وقدرة على استثارة الحماسة في مستمعيه. في تلك السنوات حين شكلت الحركة الطلابية لجنتها الوطنية العليا يوم الخميس 20 يناير 1972، ضمّت عدة أسماء كان في مقدمتها أحمد عبد الله، وسهام صبري، وأحمد بهاء الدين شعبان. وكانت سهام صبري رحمها الله شجاعة ذلك الجيل، وقبضته الضاربة، وقد عرفتها شخصياً، ولمست فيها تلك الجرأة التي لا تعرف حداً، أو حاجزاً. وكان أحمد بهاء شعبان ومازال قلب ذلك الجيل وضميره الإنساني الرحب، لكن أحمد عبد الله كان من دون شك قمراً على ذلك الجيل كله، بسحره، وطبعه الحاد، والطاقة العصبية الحارقة التي لم تدع لغبار الهموم فرصة ليعلق بملامحه الدقيقة. من الذي عرف أحمد عبد الله ولم يحبه؟. ولم تكن مصادفة أن ينتخبه الطلاب بالإجماع رئيساً للجنة الوطنية العليا عام 1972، وأن يقود الاعتصام في قاعة جمال عبد الناصر، وأن يرسل وفداً إلى الرئيس السادات ليلتقي به، وأن يخطب في الطلاب فينصتوا إليه مأخوذين به وبإشارات ذراعيه الطويلتين الرفيعتين، ويسود صمت لا يسمع فيه سوى صوته. في 13 ينيار 1972 ألقى السادات خطاباً برر فيه تأجيل حرب التحرير بالضباب السياسي، وأخذت الجامعة تغلي، وأحسّ الطلاب أن السادات قد جاء خصيصاً ليفتح طريق التسوية السياسية مع الأمريكيين. وفي 17 يناير دعا الطلاب لمؤتمر موسّع، وامتلأت جدران الجامعة بالملصقات ومجلات الحائط، وتشكلت اللجنة الوطنية للطلبة بزعامة أحمد عبد الله، وانتفضت الطلاب تحت شعارٍ مازال حياً في الضمائر "كل الديمقراطية للشعب، كل التفاني للوطن"، وطالبت مظاهرات 1972 بإعداد الجبهة الداخلية لحرب تحرير شعبية، وتسليح الجماهير بما فيهم الطلبة، ورفض الحلول السلمية، وفرض الضرائب على الدخول المرتفعة، وقطع العلاقات مع أمريكا، ودعم نضال الشعب الفلسطيني. وهزت اليقظة الطلابية مصر كلها من أقصاها إلى أدناها، وجرت مفاوضات منهكة بين زعماء الطلبة وقادة مجلس الشعب ومنهم سيد مرعي، وفي 24 يناير شغل الطلاب ميدان التحرير بأكمله وكتب أمل دنقل: "أيها الواقفون على حافة المذبحة.. أشهروا الأسلحة" وفي اليوم التالي ألقى السادات خطاباً قال فيه: "الطلاب طيبين.. لكن هناك قلة منحرفة عشرين واحد قاعدين يشتموا أساتذتهم ويشربوا سجاير، أولاد على بنات، مسخرة وقلة أدب"، ثم أعلن عبارته الشهيرة "أنا ما أقعدش مع رزة" يقصد أحمد عبد الله رزة ! وفي نفس يوم الخطاب تشكلت لجنة وطنية ثانية من الأدباء تناصر مطالب الحركة وضمت : أحمد حجازي، رضوى عاشور، عبد الحكيم قاسم، عز الدين نجيب، أحمد الخميسي، وآخرين، ودعت لمؤتمر موسع بنقابة الصحفيين، وأصدرت بياناً موثقاً في كتب الحركة بهذا الصدد. ومع انحسار الحركة كان أحمد عبد الله هو المتهم الأول في قضايا 73، وأدى امتحاناته فى سجن طرّة حيث حصل على بكالوريوس العلوم السياسية في العام ذاته. وكانت حركة 72 امتداداً لدور الطلاب العظيم منذ ثورة 19، ثم انتفاضة 1935- 36 حيث برز اسم عبد الحكم الجراحي، ثم دورهم في اللجنة الوطنية العليا للعمال والطلبة في 46، ثم في مظاهرات فبراير ونوفمبر 1968، وكان كل ذلك التاريخ يسكن ضمير جيل السبعينات المنتفض بحثاً عن حرية بلاده واستقلالها. وكان هناك قمر على ذلك الجيل، انطفأ فجأة عن 56 عاما فقط، قمر من الذكاء والحماسة، بحيث لا يمكن لمن عرفه أن ينساه أبداً. يعتبر أحمد عبد الله في كتابه الحركة الطلابية في مصر – وهو الوحيد الذي قد يقول شيئاً كهذا – أن الرومانسية ضرورة من ضرورات الحيوية الإجتماعية، وأن على من يريد التحاور مع القوة الطلابية ألا يفرض عليها التخلي عن رومانسيتها. وعندما كفّت الأغنية عن الرنين، ظل المغني وحده، يبحث لصوته عن أغنيات جديدة.
أيها العزيز النبيل أحمد عبد الله، يصحبك عند الوداع إيقاع وحيد لنشيد واحد: كل الديمقراطية للشعب، وكل التفاني للوطن!
أحمد الخميسي. كاتب مصري - Ahmad_alkhamisi@yahoo.com

No comments: